الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

أصول التعذيب في الأدب: برناردت ج. هروود



ترجمة ممدوح عدوان

Sculpture by Olivier de Sagazan
في كل عام تظهر كمية هائلة من القصص التي تعالج، ولو جزئياً، الوحشية الجسدية. وعلى الرغم من أن السادية- المازوشية قد لا تكون في صلب الموضوع إلاّ أنها تكون متوفرة في نسبة كبيرة من القصص. وأحد الأدلّة على ذلك يبدو في عدد المبيعات الهائل لما يسمى مدرسة الكتابة البوليسية الواقعية. إن شعبية الملف الأدبي تعكس ذوق المجتمع. فالذين لا يستطيعون، لسبب أو لآخر، أن يخلقوا الجحيم الذي يتوقون إليه، يشبعون رغباتهم في العالم الخيالي للكتب وأفلام السينما والتلفزيون.
وكل من يستطيع القراءة هذه الأيام صار على صلة بكلمتي السادية والمازوشية. وما لا يعرفه إلا القلة أن كلاً من التعبيرين يمدّ جذوره العميقة في عالم الأدب. ولقد اشتقت الكلمتان من إسمي نبيلين أوربيين هما الكونت دوناتييه ألفونس فرانسوا دو ساد والفارس ليوبولدفون ساشر مازوش. ومن المستحيل البحث في الجوانب الأدبية للتعذيب دون التنقيب عن دو ساد الفرنسي وساشر- مازوش النمساوي وليس فقط أن كتاباتهما تمثل الحد الأقصى المتطرف من حالة شذوذ جنسي محدودة بل إن قصتي حياتهما الشخصيتين تساهمان في توضيح كيف أن اسميهما قد اندرجا بين التعبيرات العلاجية السريرية.
ولد الماركيز دو ساد في الثاني من حزيران عام 1740 في احدى أبرز العائلات في وسط النبلاء الفرنسي. ولد معه لقب ماركيز ثم ورث لقب الكونت بعد موت والده. إلا انه وقد كون شهرته قبل موت الأب فإن اللقب الأول أكثر شيوعاً. وكان عدد من أسلافه قد أرسوا مكانة متميزة للعائلة كرجال دين وأبطال عسكريين ورجال دولة. وما من شك أن أشهر أسلافه جدته ني القرن الرابع عشر لورا دونوف التي خلدها بترارك في شعره ثم أصبحت زوجة هيغو دوساد مؤسس العائلة.
قضى المركيز الصغير السنوات الأربع الأولى من حياته مع أمه، وهي ابنة أخ الدوق دوريشيليو سيء الصيت ووصيفة الأميرة دو كوندي من آل بوبورن. وأفسد دوناتيين، الطفل الجميل ذو الشعر الذهبي الطويل والعينين الزرقاوين الواسعتين والتفاصيل الدقيقة بالتدليل والملاطفة اللذين كان يجدهما عند كل من حوله. لم يكن ليمنع عنه أي وجه من وجوه الرفاه. ولما كان قد أظهر دلائل النجابة منذ أن كان في الرابعة فقد بدا يزعج من هم أكبر منه. وعلى الرغم من أنه كانت له ملامح ملاك إلاّ أن مزاجه كان شيطانياً. فحين لا يفعل ما يشاء يتحول إلى منطو حقود. وبكلماته هو كان «مغروراً متسلطاً سريع الغضب.»
إلاّ أنه لم يكن أمراً غير عادي أن تبرز هذه المواصفات في نبيل غرّ أيام لويس الخامس عشر؛ وبالنسبة لـ دو ساد فقد كانت المسألة كامنة في أنه أذكى ممن هم أكبر منه. وكان ذلك مفسداً ليافعي القرن الثامن عثر مثلما هو مفسد اليوم. ومع الأيام أرسل الغلام إلى المقر الريفي لعمه فرانسوا، وهو كاهن بحاثة هجر الحياة الدنيا في باريس وانقطع إلى الدراسة والتأمل. وهناك نمى الماركيز تعطشه للمعرفة وحبه للكتب. وحين أصبح  في العاشرة من عمره انخرط في الجزويت في( كلية لوي دوغراندا) في باريس.
وحين صار عمره أربعة عشر عاماً كان قد حصل على ثقافة عالية. تفوّق في اللاتينية واليونانية وتألق في المبارزة والمناقشة والتمثيل والفنون الجميلة وأسفر عن موهبة متميزة في الرسم والنحت. وفي ذلك الحين أيضاً غرق في الملذات الجنسية التي ميزت فرنسا القرن الثامن عشر ما قبل الثورة. وتحول إلى رحالة في دروب الجسد في فترة خدمته العسكرية ما بين 1754 و1963. ولقد قضى جزءاً من هذه الفترة العسكرية في ألمانيا حيث اشترك في حرب السبع سنوات. والجانب الوحيد الذي كان يستمتع به في حياته العسكرية هو الاستمتاع بالإجازات، وكان أفضلها ما يقضي في المباغي حيث كانت الممارسات الجنسية الغريبة تعمل على إثارة الشهوات المتخمة لدى الزبائن الأرستقراطيين.

وحتى ذلك الحين لم يكن هناك ما يميز الماركيز دو ساد عن أقرانه النبلاء. كان شاباً شهوانياً فاسقاً همّه الأوّل التجديد في السعي إلى المتعة. وكان التميز الطريف الذي سيخلده كفيلسوف الرذيلة لم يظهر بعد.
وفي عام 1763، وبعد أن مل حياة الجيش استقال برتبة كابتن في سلاح الفرسان وعاد إلى باريس وإلى حياة المرح الهائج. كان عمره ثلاثة وعشرين عاماً. في ذلك الحين خيمت غمامة قاتمة على مستقبله على الرغم من أنه لم يكن يعرف ما هي. قرر والده، الكونت دو ساد، أنه قد آن الأوان لأن يستقر ابنه. ولم يكن الأب، الضابط الكبير في الجيش وحاكم عدة ولايات، غنياً بمقاييس القرن الثامن عشر. ولذا فقد كان من الضروري بالنسبة له أن يرتب زواجاً غنياً لوريثه الأول. وهذا ما فعله فوراً، وكانت الفتاة رينيه بيلاجي كوردييه دولونيه دومونتريو، ابنة رئيس مصلحة الضرائب.
وعلى الرغم من أن دو ساد الشاب لم يكن يستسيغ الفكرة إلا أنه أدرك أن لا خيار أمامه. فإذا رفض أمر أبيه في الزواج من رينيه فقد كان يعرف بأنه سيلقى به في السجن بأمر ( ليتردوكاشى) من الملك. وكانت تلك هي الطريقة الشائعة في إجبار الأبناء العنيدين من النبلاء على إطاعة ذويهم. وبالتدرج صار مرغماً على القيام بزياراته إلى آل مرنتريو في باريس. ولكن مدام دو مونتريو، التي كانت ترتدي البنطلون في العائلة فتنت بالشاب الأنيق منذ اللقاء الأول. وعلى الرغم من أنه لم يكن طويلاً إلاّ أنه كان بالغ الأناقة ذا شخصية جذابة وكان النموذج الأمثل للارستقراطي التقليدي.
وكانت هناك مشكلة صغيرة واحدة فقط. فحين وصل دو ساد صدف أن وقعت عينه على أخت رينيه الصغرى ؛ لويز وهي صبية شقراء جميلة ذات مظهر مثير. كانت تمشى في حديقة المنزل في ذلك الوقت وربما كانت قد وضعتها هناك أمها الماكرة كطعم. ولا شك أن مدام دو مونتريو الخبيثة قد افترضت أن اللقاء مع صهرها المقبل سيكون ألطف إذا ما رأى في البداية الابنة الأكثر جاذبية. ولم يتم التعارف بين الاثنين لكن أعينهما تقابلت بسرعة وكان رد الفعل الكهربائي الكيماوي متوافقاً بينهما. وفرح الماركيز وقد ظن أن الفتاة التي تحمل الأزهار هي عروس المستقبل. وحين عرف الحقيقة ثارت ثائرته. وبالطبع لم يكن وارداً في تلك الأيام تزويج الفتاة الصغرى قبل الكبرى. وعلى الرغم من أن دو ساد أبلغ حماة المستقبل بفظاظة أنه يفضل أن يتزوج لويز إلاّ أنه أبلغ بفظاظة مماثلة أن هذا أمر غير وارد.
ودون أي تأخير حدث الزواج في باريس في 17 أيار 1763 في كنيسة (سان روش). وكان مهر العروس كافياً لإنقاذ عائلة دو ساد من كارثة مالية. وبالقيمة الشرائية المعادلة في منتصف القرن العشرين كان المهر يقرب من مليوني ونصفا المليون من الدولارات.
ولو أن رينيه، الجذابة المطيعة الوديعة، استطاعت أن تثير أدنى اهتمام لدى زوجها الجديد لاتخذت حياته في المستقبل مجرى مختلفاً تماماً. لسوء الحظ كانت مملة إلى درجة أنّ مجرد ذكرها كان يقيده. ولذا فإنه انغمس، أكثر من ذي قبل، في حياة مسعورة من الفسق.
وككثير من معاصريه كان له ( منزل صغير) في اركويل في ضواحي باريس. وكان اسم هذا المنزل (لومرونيري) وهو المخبأ النموذجي للشاب المستهتر. وكان البيت يبدو تماماً كبيت فلاحي وكان محاطاً بسور واطئ ومختبئ بين الأغصان المائلة عليه من الحديقة الجميلة. جدد البيت من الداخل تجديداً كاملاً وكان ذو جدران كتيمة ومداخل مستورة ويضم كافة وسائل ترف المدينة بما في ذلك مجموعة من الخدم الكتومين. وفي هذا المكان اعتاد دو ساد أن يقيم (عربداته الخطرة) مع أصدقائه ومحظياته الباريسيات وكان اثنان من رفاقه المفضلين في تلك الحفلات الصاخبة الأمير دولا مبال والدوق فرونساك. كان الأول متزوجاً من الأميرة سيئة الحظ التي مزقها الناس إرباً ومثلوا بجثتها أثناء الثورة. أما دوفرونساك، الخليع الشهير، فكان شاباً موهوباً في الهندسة. وقد اخترع كرسياً عبارة عن فخ (الأصل للأريكة المعاصرة القابلة للانفتاح) وكان يستخدمه لإغواء البغايا المتمنعات. وكان مصمماً بحيث أنه ما أن تجلس عليه الفتاة حتى ترى نفسها مرمية على ظهرها وساقاها مرفوعتان ومفتوحتان.
وما كان يزعج مدام مونتريه أن صهرها لم يكن يقضي إلاّ وقتاً يسيراً جداً مع زوجته خلال الأشهر القليلة الأولى من الزواج. والأسوأ من ذلك أن رينيه التافهة كانت ترفض أن تعرف ما يحدث. وبالغ دو ساد في سلوكه كثيراً جداً في أعين منتقديه، حتى وصل الأمر إلى اعتقاله في 29 تشرين الأول  بعد خمسة أشهر فقط من العرس، وسجن في قصر فنسان. وليس من المؤكد تماماً أن ما قام به كان سيئاً. ولكن إذا حاولنا تجميع شذرات مختلفة من المعلومات فإننا نستطيع أن نخمن أنه كان يعاقب لكتابته كتاباً بذيئاً يحتوي على وصف تفصيلي للواطة. إذ انه لم يكن يؤذي أحداً بشكل علني في الوقت الذي اعتقل فيه، فلقد أوقظ من نوم عميق كانت تطوقه فيه عاهرتان عاريتان.
وبعد أن قضى فترة قصيرة في فنسن أطلق صراحه وأمر بمغادرة باريس. وأرسل إلى قصر حميه في النورماندي وحيث لم يتحسن سلوكه أي تحسن. وفي أيار عاد إلى باريس من جديد واستأنف ممارساته السابقة كلها. وأكثر من ذلك أن سمعته، بعد أشهر، أصبحت أكثر سوءاً. وفي الفترة الفاصلة بين جولتين له في الريف مع محظياته الباريسيات المتنوعات اتخذ له عشيقة اسمها بوفوازان. وكانت راقصة في الأوبرا وما لم يكن يعرفه هو أنه كان تحت مراقبة دائمة من الشرطة. وكان هذا، على الأغلب، نتيجة لكيد حماته التي كانت الآن قد أعلنت حربها الشاملة على الماركيز.
وفي، تشرين الثاني 1765 نجح دو ساد في إغضاب عائلته كلها. فبعد أن حملت رينيه منه في باريس رحل إلى قصره في بروفنس مع بوفوازان. ولم يكن انزعاجهم لأنه ذهب مع عشيقة (خاصة) بل لأنه كان يقدمها على أنها الماركيزة. وبمساعدتها صار دو ساد يشرف على طقوس العربدة والفسق والتي كان كل منها أكثر صخباً من سابقه ودون أية محاولة للإبقاء عليها في الخفاء. وخلال فترات استراحته صار دارساً للانحراف والفساد فقد كان يقضي ساعات طويلة في المخابئ وهو يراقب أعمال الفسق ويسجل الملاحظات التفصيلية عما يحدث.
وخلال السنوات الثلاث التالية نزلت سمعة ساد إلى درك أحط إلى حيث صارت له سمعة المسخ الشاذ. ولم يكن هذا صحيحاً على الإطلاق. وعلى الرغم من أنه كان دون شك شخصاً ذا شهوات جنسية لا حدود لها، إلاّ أنه لم يكن أسوء من غيره من متهتكي أيامه في أي شيء. غير أن سوء حظه جعله يمارس لعبته بين أيدي أعدائه، لأنه كان دائماً نفساً متحررة ذات طبيعة متمردة.
صباح أحد عيد الفصح عام 1768 ارتكب إحدى أسوأ أخطائه. وهناك روايات عديدة لما حدث فعلياً في ذلك اليوم. أصل المسألة كان على هذا النحو: غرر بامرأة فقيرة اسمها روز كيلر إلى (بيته الصغير) بدعوى أنه مالك سيؤجرها منزلاً، وما أن استفرد بها حتى نزع عنها ملابسها وقيدها إلى السرير ثم جلدها، وفيما كانت عاجزة عن المقاومة أخذ سكيناً صغيرة وجرحها في عدة أماكن من جسدها. ويصعب التأكد ممّا إذا كانت فعلاً قد سكب الشمع على هذه الجرح كما ادعت فيما بعد. وأخيراً دهن الجرح وتركها وحيدة. وعند هذا الحد استطاعت أن تفك قيودها وأن تهرب من البيت.
ومن الطبيعي أنه حين ظهرت روز أمام البوليس مشعثة الشعر وفاقدة الأعصاب من الخوف والألم فقد كان ذلك بداية فضيحة مثيرة. اعتقل دو ساد وقدم للمحاكمة. واعترف بمعظم التهم. إلاّ أنه بصلف كبير أبلغ المحكمة أن العالم يجب أن يكون ممتناً له لما فعله. وأوضح أنه لم يكن يفعل أكثر من ممارسة تجربة علمية عن مراحل عمل بلسم عجيب يشفي الجراح كلها. وأُقنعت روز بسحب دعواها ودُفع لها تعويض كبير.
وكان الهامش الهام الذي ظهر في المحكمة جزءاً من شهادة روز وعلاقته بما كتبه دو ساد بعد سنوات فحين كانت تحكي قصتها في (البيت الصغير) أبلغت المحكمة أنه بعد تجريحها«بدأ الماركيز يطلق صرخات حادة مخيفة»، وهذا ما يشير إلى أنه قد وصل إلى ذروة جنسية عنيفة خاصة. وعن الموضوع ذاته كتب فيما بعد: «وبما أنه لم يعد هناك مجال للشك في أن الألم يؤثر فينا بشكل أقوى من المتعة: حين نولد هذا الإحساس بالألم لدى الآخرين، فإن كياننا كله سيرتعش بقوة كبيرة من أثر الصدمات الناجمة». ونتيجة لهذا الطيش سجن الماركيز شهرين ثم أطلق سراحه أخيراً بعد أن دفع غرامة مقدارها مائة فرنك. والحادث الثاني الذي سبب له سمعة غير حسنة كان بعد أربع سنوات. في حزيران 1772 ذهب مع خادمه إلى مبغي في مرسيليا. وبعد انغماسه في عمليات جلد ولواطة قدم للفتيات سكاكر تحتوي على الذراح(1). وفي وقت متأخر من تلك الليلة عاد لزيارة إحدى النساء وبعد اللهو الخاص أعطاها المزيد من السكاكر المثيرة.
وخلال أيام قليلة اشتكت كافة المومسات اللواتي شاركن في اللعبة إلى البوليس إثر تعرضهن لأعراض مرضه صغيرة من الذراح. وصدرت مذكرة بالقبض على دو ساد وخادمه. وفتش قصر لاكوست وتم الاستيلاء على أملاك الماركيز. وفي هذه الفترة أتلفت كميات كبيرة من خصوصياته بما فيها الأوراق الشخصية والكتب والأعمال الفنية الجنسية.
واستطاع دو ساد أن يضلل البوليس إلا انه اقترب من نقطة التحول الخطيرة في حياته. فمنذ تلك الفترة صارت حياته لعبة مطاردة واختباء (لعبة الكلاب والأرنب). وكانت الكلاب هي التحالف القائم بين حماته والبوليس الذين يطاردون الماركيز المتمرد مطاردة دائمة. وكان وقت الماركيز يهرب من يديه بسرعة.
ومع ذلك فلقد عاش في السنوات القليلة التالية حياة مليئة ومتخمة وهو يعيش حياته القلقة. وعلى الرغم من مطاردة  البوليس الجادة له بسبب "حفلة سكاكر الذراح" ، فقد نجح في إغواء لويزا أخت زوجته والهرب معها إلى ايطاليا. وفي الوقت ذاته صدر عليه في وطنه حكم غيابي بقطع رأسه وإحراقه. وكانت المرحلة الايطالية مرحلة استجمام إلا أنها كانت مرحلة قصيرة. وافترق العاشقان المتيمان فراقاً أبدياً. أرسلت لويزا إلى الدير وأعتقل دو ساد مرة أخرى. وهذه المرة يأمر من ملك ساردينيا (وبوشاية من حماته).
 وما أن علمت رينيه أنه يتألم في حصن ميولان في شامبرى حتى هرعت لإنقاذه- الأمر الذي أرعب والدتها. تنكرت رينيه في زى رجل وحاولت الدخول إلى الحصن دون جدوى. وبعدما يقرب من شهر وفي وقت متأخر من ليل 30 نيسان 1773 نجحت رينيه مع عصبة من خمسة عشر رجلاً في ترتيب هروب دو ساد وعلى الرغم من أن الأمر يبدو لنا في هذه الأيام غريباً جداً، إلا أن ولاء رينيه لزوجها ظل ثابتا مدة أطول مما يتوقع. ولكن لا بد من تذكر أنها كانت قاصرة الخيال لا يهمها إلا شؤون بيتها والمحافظة على ما نعتبره اليوم صورة الزوجة الكاملة.
وفي السنوات الأربع التالية عاش دو ساد حياة رخوة. فقد قضى في ايطاليا وقتاً طويلاً مع مجموعة من العشيقات. وكان يعود بين حين وأخر إلى قصره، لاكوست، في بروفنس -وهناك كان يحاول أن ينسى حقيقة كونه مطارداً. ولقد عاش لفترة كسيد للقصر. وكان يكتب المسرحيات وينتجها إلاّ أنه ظل ينسخ ملاحظاته عن الحفلات الصاخبة الماجنة التي كان يبدو أنه لن يتعب منها ابداً. وأخيراً وبعد عدد من المناوشات الصغيرة مع السلطات اعتقل في شباط 1777 على يد خصمه العتيد المفتش مارباس. وتحقق ذلك، إلى حد كبير، بمساعدة مدام دومونتريه التي كانت كراهيتها لصهرها بلا حدود. لقد ندمت أشد الندم على تزويجه بـ رينيه؛ ولكن بعد إغوائه لـ لويز صممت المدام على أن لا يقف شيء في طريق انتقامها. ولم تعد أمام دو ساد الشاب إلا فترات قصيرة من الحرية -حتى الآن لم يتجاوز السابعة والعشرين- ، وأخيراً في آب 1778 يحتجز في قصر فنسان ليقضي أول فترة من سجنه الطويل.
في البدء وضع في حجرة صغيرة رطبة ليس فيها من الأثاث إلا سرير. ولم يسمح بزيارته، ولم يسمح له بإدخال الكتب أو أدوات الكتابة. بالنسبة لـ دو ساد، ذي القوة الجسدية والعقلية الجبارة؛ كان هذا نوعاً من التعذيب. ولم يكن أمامه ما يفعله إلاّ التمشي والتفكير والتأجج بالكراهية للمجتمع الذي نبذه واضطهده حتى حبسه كالوحش. وفي هذه المرحلة بدأ خياله ينطلق في أعنف جموحاته. وهنا في هذا السجن الرطب القاسي بدأت شطحاته العقلية المصحوبة بذكريات انتصاراته السالفة تعطي ثمارها. لقد كانت أفكاره في حالة من الهياج ضمنت لهذا الرجل المعذب خلوداً لم يكن يسعى إليه.
مع الأيام أعطي دو ساد ورقاً وأقلاماً. وكان قد تعلم أن يعزل نفسه عن الواقع من خلال خياله وكانت متعته الكبرى هي في تصور وسائل ارتكاب أشنع الجرائم وممارسة أعجب فنون الفسق وإنزال أفظع أشكال الدمار الشامل. أما عائلته وحماته، فبعد أن اطمأنت إلى انه آمن في سجنه فقد ارتدت إليه لتلبي له كل ما يطلبه من طعام وشراب. وراح يأكل ويسمن مستعيضاً عن الجنس بالشراهة في الأكل. وواظبت رينيه على مراسلته وبدأت تتبع تعليمات زوجها حول الكتب السرية التي يجب أن تؤمنها له. وإلى أن اكتشف أمره ومنع فقد كان أرسل عدداً كبيراً من الرسائل السرية المكتوبة ين خطوط الرسائل البريئة الواضحة. وكان يستخدم أبسط أنواع الحبر السري في الدنيا — عصير الليمون.
وأخيراً في 1781 وبعد ما يقرب من ثلاث سنوات في السجن سمح للماركيزة بزيارة زوجها وبإخلاص راحت تجلب له الكتب. أما على مستوى الحديث فقد كانت الزيارات مفجعة. كانت تهذر دون توقف عن الشؤون المنزلية والأولاد والمسائل المالية الصغيرة -وكان هذا كله يبعث من الملل عند دو ساد ما يوصله إلى الانهيار. كانت الأفكار، نهائياً، خارج اهتمامات رينيه. فمن جهة أولى كانت تخبر الماركيز التعيس أن كل شيء في البيت على ما يرام ثم، وفي اللحظة التالية، تثير عرضاً إلى أن مخطوطة لا تقدر بثمن، أو مجموعة لا تعوض من الرسائل قد ضاعت. وتحولت خيبته إلى غضب وحاول إيذاء زوجته جسدياً. ونتيجة لهذه الانفجارات أوقفت زياراتها له فوراً.
قي 1784 نقل دو ساد إلى الباستيل. وبعد عام كان قد كتب كتابه العجيب «120 رحلة إلى سدوم أو مدرسة الفجور». ولو أن هذا الكتاب نشر في وقت كتابته [لم ير النور حتى عام 1904] لكان قد سبق "كرافت ايبنغ" لما يزيد عن القرن. وعلى الرغم من أن «120 رحلة إلى سدوم» قد كتبت بأسلوب قصصي إلاّ أنها كانت في حقيقتها مجموعة دقيقة وتفصيلية من الانحرافات الجنسية -مجموعها ستمائة وجه من وجوه الانحراف.
يدور الكتاب حول مجموعة من الفاسقين الأغنياء الذين يلتقون في قصر سري معزول حيث يقررون ممارسة كل رذيلة عرفها الإنسان. ويجلبون معهم عدداً كبيراً من الشبان والشابات ليمارسوا عليهم شذوذهم وفسقهم. ولكي يتأكدوا من أنه لن يفوتهم شيء يشكلون مدرسة تترأسها أربع عاهرات كبيرات في السن كل منهن متخصصة في مائة وخمسين نوعاً من الانحراف.
وكانت المشرفة على شؤون التعذيب حيزبوناً في السادسة والخمسين من عمرها اسمها مدام ديغرانج، وهي على هيكل هزيل وبشع لامرأة فقدت عيناً وست أسنان وأحد الثديين وثلاثة أصابع. وقد اختيرت لقدرتها على ابتكار  «الحد الأقصى من الرعب والمقت». وإضافة إلى حيازتها لكل أداة عقاب عرفها الإنسان في "قاعة المحاضرات" الخاصة بها، فقد كان في القصر دهليز رهيب عثر فيه على «أفظع ما يمكن تصوره في أشرس الفنون وأقسى أنواع الوحشية التي كانت هي ذاتها رهيبة بمقدار ما تستطيع بالتنفيذ إثارة الرعب».
وفي الوقت الذي كتب فيه دو ساد «120 رحلة إلى سدوم» كان قد كرس نفسه ككاتب وسيكون من المستحيل الخوض الآن في تحليل تفصيلي لبقية أعماله ومؤلفاته التالية، إذ ليس لدينا هنا مجال كاف لذلك. إلاّ أنه من الممكن سرد الخطوط العريضة لحياته فمن سنوات عمره الأربع والسبعون قضى إحدى وعشرين سنة في عزلة قسرية. كما أنه ساهم بفعالية في الثورة الفرنسية. فعلى الرغم من أصوله الأرستقراطية إلاّ أنه كان يكره النظام القديم والظلم المرتبط به.
وقبل الهجوم على الباستيل كان دو ساد يلقي بالمنشورات والشعارات من أبراج السجن داعياً الجماهير إلى العنف. ثم بدا يطلق شعاراته اللاهبة متخذاً المدخنة كميكروفون. وكان قد تنبأ بالثورة تنبأ صحيحاً في روايته "الين وفالكور" التي نشرت عام 1788 وفيها تقول إحدى الشخصيات:
«.... أن ثورة كبيرة تختمر في هذه البلاد، جرائم ملوككم، وفظائعهم الشنيعة، وأعمال فسقهم وعدم كفاءتهم قد أنهكت فرنسا. لقد نالت ما يكفيها من الاستبداد، وإنها على وشك أن تحطم قيودها».
إلاّ أنه على الرغم ض تهليله لإسقاط "النظام القديم" وترحيبه بذلك فقد كان متشككاً في ما سيأتي. ولقد قال: «سيكون الله أول ضحايا الثورة وستكون الفضيلة هي ضحيتها الثانية». ولم تكن أبشع شخصياته إلاّ صورة مكبرة لأولئك الذين أوصلوا فرنسا إلى حالتها المحزنة. وفي أشنع مباذلهم وأحط سلوكياتهم كان دو ساد يقدم الأعداء الحقيقيين لفرنسا ويهاجمهم، بمن فيهم من وطنيين وعامة. لم ينج أحد من هجماته الأدبية حتى مواطنو الجمهورية الجديدة الذين طالبوا بإطلاق سراحه على أساس انه ضحية للظلم في عام 1790. ووصف التجاوزات التي كان خلفاء الملكية يمارسونها بأنها «مسرح للرعب حيث... يقدم آكلة لحوم البشر عروضاً لمسرحية من النمط الانكليزي». وكان يثير بـ "النمط الانكليزي" إلى مسرحيات شكسبير التراجيدية، مثل ماكبث وهاملت، بموضوعاتها المألوفة التي تدور حول الدم والجريمة.
عاد دو ساد في الخمسين من عمره رجلاً حراً بصحة متداعية وبدانة شديدة إلاّ أنه استمر في الكتابة. كانت ثروته قد تبددت وصارت أسرته غريبة عنه تماماً. وحتى رينيه، تحت التأثير الساحق لأمها طبت منه الانفصال أخيراً، وانغمس المواطن دو ساد في حياة الجمهورية الجديدة فأصبح مسئولاً صغيراً في باريس. وليتذكر كل من يصر على اعتباره وحشاً أنه حين كان حموه البغيضون قد أصبحوا عرضة لأن يفقدوا رؤوسهم فقد عمل على إنقاذهم من المقصلة. وكاد الأمر أن يكلفه رأسه هو. لهذا السبب ولتصرفات "معتدلة" أخرى اعتقل مجدداً وسجن سنة أخرى. وخلال تلك الفترة كلها ظل خطر الموت محدقاً به.
وحين أطلق سراحه في عام 1793 أجبر على بيع قصره "لاكوست" الذي ظل متماسكاً حتى ذلك الحين.
 وعاد إلى الكتابة. إلا أنه شن هجومه الأدبي الأخير عام 1801 حين كتب "زولوى ومساعداه" وكان نقداً ساخراً وعنيفاً لـ جوزفين ونابليون. ولم يتردد بونابرت فسجن الماركيز العجوز مرة أخرى. ومرة أخرى تدخل أسرة الماركيز إلى المشهد. فقد كانت تحس أن المحاكمة سوف تكشف عن فضائح كبيرة. واقتنعت السلطات المعنية بأن الحل الأمثل هو في إيداع الماركيز المنفلت في مصحّ عقلي في شارنتون.
ومن الغريب أن دو ساد التقى بأقرب ما يمكن من السعادة وهو محتجز فى شارنتون. ولقد أسس أيضاً لما يعتبره الأطباء النفسانيون الصيغة الأولية للعلاج الجماعي. فنظم عروضاً مسرحية مستخدماً نزلاء المصح كممثلين. وصار لتلك العروض شعبيتها حتى أن نخبة مثقفي باريس كانت تواظب على حضورها قبل أن تُمنع بتحريض من طبيب ضيق الأفق.
وفي عام 1808 صار دو ساد شبه أعمى نتيجة لعدد من المنغصات كان من بينها النقرس ومرض الكبد والربو. وراح يسير نحو نهايته برباطة جأش وأخيراً مات مصاباً بذات الرئة في كانون الثاني 1814. ومن المفارقات أنه كان قد أوصى بأن يدفن في قبر دارس في غابة من ممتلكاته قرب أبرنون وأضاف: «ويجب أن تزرع الأرض فوق قبري بالبلوط لكي يخفي كل أثر له مع الأيام، تماماً مثلما آمل أن تمحي ذكراي من عقول الناس» وكما كان الأمر في حياته ففي مماته أيضاً لم يهتم أحد برغباته ودفن بدلاً مماّ أوصى به تحت صليب بسيط في مقبرة سان موريس في باريس.
ومن الواضح نسبياً، لماذا ينظر اليوم باحترام إلى هذا الرجل الألمعي المتطرف في ثوريته حتى بالنسبة لثوريي عصره. لقد كان يخاطب القرن العشرين أكثر مماّ كان يخاطب القرن الثامن عشر. وبين سطور غضباته البركانية اللامتناهية نجد النبوءة الواسعة لعالم الاجتماع المعاصر. لقد قال: «ليس من الممكن نكران أنه سيكون من الضروري والمفيد إلى أبعد الحدود تحديد النسل في دولة جمهورية... احذروا من تزايد السكان حيث كل إنسان ملك، واعلموا أن الثورات هي دائماً نتيجة طبيعية لتزايد عدد السكان».
ولم يكتف بالدعوة إلى تحديد النسل بل إنه كان يفضل أيضا إلغاء العقوبة القصوى [الإعدام] فهل من الممكن أن تكون هذه  فلسفة مجنون منحرف؟ ولقد وقف إلى جانب العلماء المتنورين الباحثين في الجريمة من أمثال سيزار بيكاريا. كان يقول إن عقوبة الموت لم تؤد أبداً إلى تحديد الجريمة. وأشار إلى أن «هناك جريمة تقترف كل يوم تحت المقصلة». واستخدم المنطق القياسي البارع الذي كان متميزاً فيه ليقول بظرف إن إعدام رجل لأنه قتل رجلاً آخر يعني أنه قد صار لدينا قتيلان بدلاً من قتيل واحد. ويقول الماركيز إن هذا هو المنطق الحسابي للأوغاد والمعتوهين. ولا شك أن أحد الأسباب الرئيسية لمعاملته السيئة على أيدي مجتمعه هو أنه كان يسخر من العالم لما فيه من نفاق وحمق ويستخدم أكثر الأمثلة فضحاً وإخزاءً مما يستطيع أن يلفق ويبتكر.
ومن مجموعة ملاحظات تفصيلية تبين أن دو ساد كان يعد العدّة لكتابة رواية ضخمة حول الحياة المأساوية لفتاة اسمها اميلي دوفولنانج. كانت اميلي ابنة سفاح القربى. كان أبوها سيرابون قد اغتصب أخته فحملت منه وقد كتب دو ساد في الملاحظات التي ترسم الخط القصصي: «أن اميلي هي ابنة سيرابون. لقد ساهمت في تعذيب أمها وشربت من دمها. وأخيراً قتلتها بالأسلوب الصيني في التعذيب، أي بسلخ الجلود السبعة للجسد. لقد أكلت قلبها وهكذا يتضح أن الأم لم تهرب لتموت في قلعة سرابون».
أكان الماركيز؛ من خلال عالم خيالاته اللامحدود؛ يعاقب والديه وحماته أم أنه للسبب ذاته كان يعاقب المجتمع كله؟
أشهر روايات دو ساد هي "جوستين أو بلية الفضيلة" و"جولييت أو نعمة الرذيلة" إن العنوانين وحدهما يشيران إلى جزء أساسي من فلسفة دو ساد التدميرية. لقد كانت الروايتان، بشكل ما، متكاملتين طباقياً. وبعد إعادة كتابتهما وتوسيعهما أصبحتا عشرة مجلدات. وليست النسخ الانكليزية الرخيصة التي تملأ الأسواق اليوم أكثر من هياكل ممسوخة عن العملين الأصليين.
كانت جوستين وجولييت أختين تمثلان "الخير والشر".. وقد رباهما لفترة دير باريسي ولكن بعد إفلاس أبيهما دخلتا إلى الدنيا للاعتماد على نفسيهما. وتتعرض جوستين الأخت الطيبة لمشاهد فاجعة بعد أخرى فتجبر على البغاء والسحاق والوحشية ثم الجريمة وفي إحدى المراحل تلتقي بشرير نباتي يغوي الفتيات ويأخذهن إلى قلعته حيث يغتصبهن ويجري بنفسه لكل منهن عملية قيصرية -ثم وبعد أن يبلغ كل طفل الشهر الثامن عشر يقوم بإغراقه- وبعد ذلك تقع بين أيدي رهبان فاسقين يمارسون أبشع أنواع الرذائل. وإضافة إلى ممارساتهم الجنسية يعذبون الضحايا من النساء ويخنقوهن ثم يطبخونهن ويأكلونهن.
في كل وضع تواجهه جوستين يكون الفسق أشنع من سابقه. وهي تقاوم ولا تكون النتيجة إلا المزيد من الإذلال والمزيد من الآلام. تمدّد على المخلعة وتكسر عظامها على العجلة وتجبر على ممارسة أحط الأفعال الجنسية. والذين تقابلهم هم مهووسو الإحراق والقتلة ومحبو الجثث وأكلة لحوم البشر ومن هم أسوأ من ذلك. ولمقاومتها الدائمة من أجل الحفاظ على مظهر الفضيلة فإنها في النهاية تموت ضحية بائسة لصاعقة مفاجئة.
وتسير جولييت، أخت جوستين، في طريق مشابه ولكن بطريقة مختلفة. بعد مغادرتها للدير تدخل مبغى باختيارها. وبعد أن تجني خبرات كبيرة في أحط أنواع الانحرافات الجنسية تلتقي نوارسيل الفاسق الثري. وبعد مشاهدة عدة فصول من مباذله، التي يعذب فيها العديد من الضحايا وبينها زوجته، تعرف جوليت أنه الشخص الذي قتل والدها. وحين يعترف لها بأنه قد قتل والديها تقول له: «أيها الوحش إنك تجعلني أرتعد. ولكنني، على الرغم من ذلك، أحبك،
ويسألها : تحبينني، أنا، قاتل أسرتك؟
وتجيبه جولييت: ولم لا؟ إنني أحكم على كل أمر من خلال الإحساس الذي يثيره. إن مراقبة ضحاياك وهي تتألم لم يثرني ولكن سماعي لك وأنت تعترف بأنك قاتل يثير أعظم المشاعر في نفسي.»
ومراقبة جولييت المتحمسة لحياة الفسق لم تمنعها من أن تكون ضحية نوع من أنواع الانحطاط الجنسي. ولكنها في معظم الأحيان تظل المعتدي الفعال أو الشاهد المراقب للوحشية. في إحدى المباذل تلقى أربع فتيات عاريات في الزيت المغلي. وفي الثانية تعذب زوجة نوارسيل حتى الموت. يدهن جسدها العاري بالكحول ثم يتم إدخال الشموع المشتعلة في كافة فتحات جسدها. وبعد ذلك تعطى سماً. وفي حادث آخر تستخدم فتاة صغيرة كحاملة شموع فيما يتم إحراق أخريات وشيهن وهن على قيد الحياة.
السجل الحافل بالفظائع والذي يتكشف أمام قارئ "جولييت" يصيب الرأس بالدوار ويلخص إيوان بلوش مؤلف كتاب "الماركيز دوساد: الرجل وعصره" ، حادثاً نموذجياً بعد عملية قتل لأسرة بكاملها.
«دهنت جولييت غرفة بالسواد ثم وضعت رؤوس الجثث في كوى الجدران لكي تقدم فيا بعد للملكة [والمقصود ماري أنطوانيت]. أكثر من ذلك تعلق أردافهم على الجدار. بعد ذلك تجلب عدة أدوات تعذيب. وتوضح الفتاة، فولفيا، على العجلة. الآخرون فقأت أعينهم أو كسرت عظامهم. ووضع شاب في آلة كبيرة تشبه مطحنة القهوة وسحق».
ومع أن هذا الوصف يبدو خيالياً إلاّ أنه يظل لطيفاً بالمقارنة مع مقاطع أكثر حدة من الرواية.
إن أحد المقاطع يستحق أن يذكر بتفصيل أكبر. وهو عن التقاء جولييت بمنسكي، وهو آكل لحوم البشر. روسي عملاق يمكن اعتباره واحداً من أبشع جزاري الرواية.
فيما جولييت راحلة عبر الإبنين في ايطاليا برفقة مقامر اسمه سبريغاني وقرينة للسحاق يدعوها الروسي لزيارة قصره والقائم وسط بحيرة عميقة هادئة. يصف نفسه بأنه «متحلل بالفطرة متمرد فاسق دموي». ويبدأ منسكي بتقديم الدليل لضيوفه. فيما كان يتحدث كانت جولييت وزميلاها يسمعون الصرخات الحادة لضحايا منسكي الذين يتلوّون في سراديب عميقة تحت الأرض. وبالتطلع حولهم استطاعوا أن يروا إن كافة الكراسي في المنزل مصنوعة من عظام البشر.
وعند سرد قصته يوضح منسكي أنه طاف العالم ليتعلم أشنع الجرائم والرذائل في كل مكان ذهب إليه. والنتيجة كما يقول: «لقد حكم علي بالحرق في اسبانيا وكسرت عظامي على العجلة في فرنسا وعلقت من عنقي في انكلترا وضربت بالهراوات حتى أشرفت على الموت في ايطاليا».
وبسخرية دو ساد المتميزة يوضح منسكي أن ثروته كانت تحميه من العقوبة في كل مكان. ويقول لضيوفه أنه يفضل إفريقيا عر كل ما عداها من الأمكنة لأنه وجد الإنسان هناك «ضارياً بالفطرة وقاسياً بالغريزة وعنيفاً بالتربية» ويتابع منسكي أنه في إفريقيا جرب تذوق لحم البشر ليضيف بأن الأثاث في بيته المصنوع من بقايا البشر ليس إلاّ بقايا وجباته السابقة.
ويحتفظ بأعداد كبيرة من الضحايا الأقوياء سجناء لكي يشبعوا شهواته كلها، وفي أحد الفصول يحكي عن احتجازه «مائتي طفل أعمارهم بين الخامسة والسادسة عشرة ما بين سريري وحانوت لحامي». وفي مكان آخر لديه جناحان للحريم، مائتي أنثى ما بين الخامسة والعشرين، ومائتان غيرهن من الثلاثين وما فوق. المجموعة الأولى مثل الصبيان، يستخدمهم لأغراض جنسية حتى يستهلكها وبعد ذلك تذبح لإعدادها للمائدة.
وفي النهاية حين يقدم العشاء لجولييت وسبريغاني يصابان بالذهول. الثريات ومائدة الطعام والكراسي والخوان، كلها فتيات عاريات على قيد الحياة. وكانت المشويات التي تقدم في صحون فضية، تحرق "الموائد" بشدة. ولكن أسوأ ما في الأمر، كما يوضح منسكي، هو أنه قد تموت إحداهن وعندها يتم استبدالها بسهولة.
وبعد الأكل بنهم من حساء ممتع تسأل جولييت مضيفها عن ماهيته. ويرعبها بقوله إنها حساء خادمة غرفتها السابقة. وبعد ذلك، وللترفيه عن ضيوفه فقط يأخذهم منسكي إلى مكان خاص بالوحوش الجائعة ويطعمها بعدد من النساء المولولات من حريمه.
إلا أن الانجاز العظيم لمنسكي هو تصميم مقعد يمكنه من شنق وتعذب ست عثرة ضحية في آن واحد. وهذا التصميم لا يكتفي بذلك بل إنه يوقع في كل ضحية جرحاً مختلفاً. فهو يجلد ويخز ويحرق ويمزق ويقطع ويجز ويجرح. ويشرح لهم مزهواً بأنه إذا أدار الضوابط بقوة كافية فإنه يستطيع أن يقتل الجميع فوراً ودفعة واحدة.
بعد ذلك كله تدرك جولييت وسبريغاني ماذا سيكون مصيرهما إذا أطالا المكوث هنا. يخدران منسكي ويسرقان من كنوزه ما يستطيعان حمله ثم يهربان. والسبب الوحيد الذي منعهما من وضع سم كاف لقتله إيمانهما أن «غولا كهذا يجب ألا يقتل».
وبما كسباه من إغارتهما على خزائن منسكي يفتح سبريغاني وجولييت مبغى في فلورنسا يحتوي على كازينو للقمار ومختلى للتسميم ثم تأتي رحلات أخرى تشتمل على فسوق أفظع كالقتل الجماعي وحفلات العربدة والسحر الأسود. في احدى المراحل يدعو ملك نابولي جولييت إلى مسرح جينيولا بك العظيم المتخصص بالرعب الذي يعتبره الترفيه الخاص عن أصدقائه. ويقدم على المسرح عروضاً مستمرة للإعدام بالنار والضرب والشنق وبتر الأعضاء وقطع الرؤوس والخوزقة والتكسير على العجلة. وفي أحد العروض يقتل 1176 شخصاً دفعة واحدة. والأسلوب الفريد من نوعه في القتل في هذا المسرح عبارة عن ألاّ تحتوي على صفحتين حديديتين. تعلق امرأة عارية على كل منهما ثم تسحقان معاً بضربة واحدة كضربة صنج جبار وبقوة كما تُمْعَسُ بقَّتان.
وقبل أن تصل الرواية إلى نهايتها تمر مشاهد عديدة أخرى من الفسق والقتل والتعذيب. وتقوم جوليت وعاشقة لها بإلقاء امرأة ثالثة في فوهة بركان جبل فيزوف. وتهتاجان جنسياً بما فعلتاه فتتعريان وتغرقان في عاصفة جنسية ووراءها البركان في هيجانه المفاجئ.
وفي نهاية حكايتها الطويلة المرهقة تندفع جوليت في "كلام مغموز" مسهب. منه:
«الماضي يرهقني، الحاضر يشحنني ولست أخاف من المستقبل ابدآ. أملي الوحيد هو أن أواصل في ما تبقى من حياتي تخطي فسق شبابي».
وبالفعل تستمر جوليت بالاستمتاع بالحدود القصوى للفساد وتصبح أثناء ذلك ثرية ثراء فاحشاً وتطالب بعنوان قبل موتها  بسلام بعد سنوات. وتصرخ: «على من يكتب قصتي أن يضع لها عنواناً: جوليت نعمة الرذيلة».

**********
**********

بعد اثني عشر عاماً من موت دو ساد المأساوي وغير المعلن ولد إنسان قدر له أن يرتبط به إلى الأبد. كان اسمه ليوبولدفون ساشر-مازوش وكان ابن مفتش الشرطة في لمبورغ في النمسا. ينحدر ليوبولد من أسرة نبلاء اسبانيين من جهة والده ومن ارستقراطية بولندية من الجهة الأخرى. قضى الأعوام ألاثني عشر الأولى في بيئة سلافية الأمر الذي أثر بعمق على حياته في المستقبل وعلى توجهه كروائي.
كانت أوروبا تعيش حالاً من الفوضى في السنوات المؤثرة في تكوين ساشر-مازوش وخاصة منطقة مولده غاليسيا. في عام 1846 حدثت انتفاضة فاشلة قادها الملاكون البولونيون ضد حكومة النمسا. وكان من الممكن أن تكون أكثر نجاحاً لو لم تكن ذات خاصية محددة. ففي مؤامرة غريبة من نوعها كان على زوجات البولونيين المستعدين للتمرد أن يخنقن كافة الضباط النمساويين الذين سيراقصنهم في قاعة الاحتفالات العسكرية. ونجا المخطط لموتهم بالصدفة لأن واحداً من عائلة هايسبرغ الحاكمة مات فألغيت الحفلة. ومع ذلك بدأت الانتفاضة.
واندفع الفلاحون فوراً، وبسرعة قاموا بأعمال السطو والاغتصاب والتعذيب والقتل. وانهمك مفتش الشرطة في محاولة المحافظة على النظام في لمبورغ وصار يعود كل يوم إلى البيت ومعه قصص دموية مرعبة يقف لها شعر الرأس. وذهل ليوبولد الصغير. وأكثر من ذلك كان الطفل الاجتماعي المرح يستمع بانتباه لكل من يحكي له قصصاً أكثر رعباً من القسوة والذعر والموت.
وحدث في سن العاشرة حادث ظهر فيما بعد في إحدى روايته مع بعض التعديلات التفصيلية وفي كل حادث هناك القليل من الشك في أن يكون معظمه صحيحاً. كان لـ ليوبولد خالة في الثلاثين اسمها الكونتيسة زنوبيا. كانت جميلة وشهوانية ذات سمة ارستقراطية وشكل شبه ذكوري. وكان من عاداتها أن ترتدي فرو مترفاً غالياً وأن تحمل معها سوط كلب. وكان الولد متيماً بها يتبعها بانصياع مطلق. بين حين وآخر كانت تسمح له بمساعداتها في ارتداء ملابسها. وذات يوم فيما كان يساعدها في ارتداء خف مؤطر بالفرو انحنى دون تفكير وقبل قدمها. ورفسته في وجهه بقوة وهي تضحك. ولدهشته اكتشف أن الهجمة غير المتوقعة قد منحته متعة كبيرة. وبعد هذا الحادث بوقت قصير وفيما كان يلعب لعبة الاستغماية اختبأ في مقصورة ملابس زنوبيا. واستولى عليه مزيج من الخوف والفرح حين دخلت الغرفة مع عشيق لها وارتمت معه على السرير فوراً. ودون سابق إنذار يندفع زوجها إلى الغرفة. ولم يجد الفرصة لمهاجمة من يخونه حتى لو كان ينوي ذلك. دون أدنى تردد أمسكت الكونتيسة بالسوط وراحت تجلد الرجلين لطردهما من الغرفة. وأطلق ليوبولد صوتاً دون وعي منه وهو المستثار إلى أبعد الحدود. وسرعان ما فتحت زنوبيا باب مخبئه وألقت به على أرض المخدع وراحت تضربه بقوة شديدة وهي تضغط بركبتيها عليه. وللمرة الثانية اكتشف أنه يتذوق متعة غريبة. بعد أن طرد صار يعود متسللاً في الوقت الملائم ليرى زوج خالته، الكونت، يرجع إلى غرفة زوجته طيعاً ليتلقى المزيد من الضرب على يديها.
حين صار عمره اثني عشر عاماً ذهب ليوبولد إلى براغ التي كان والده نقل إليها. وكانت أوروبا الشرقية ما تزال في حالة من الفوضى وكانت المدينة ممزقة بالثورة وبقتال الشوارع. ومرة أخرى يفتن الولد الحساس بأنثى متسلطة. وهذه المرة كانت ابنة عمه ميروسلافا التي تصغره بعدة سنوات وكان تعود مرافقتها إلى متاريس الشوارع حيث كان يخيم الخطر الدائم من الرصاص الطائش. كانت تلبس سترة من الفرو وتنتعل حذاءً جلدياً وتحمل في حزامها مسدساً وتصرخ دائماً ملقية الأوامر على الشاب المتيم الذي كان يحب ذلك بكل تفاصيله.
كانت النتيجة المباشرة للانطباع القوي الذي خلفته هاتان المرأتان في ساشر-مازوش أن تحول إلى نموذج من الذكر الخاضع جنسياً. والأكثر أهمية أنه منهما قد استمد شخصيات بطلاته المتسلطات الشرسات اللواتي كن يعذبن الرجال المنكودين في العديد من رواياته. وأكثر من ذلك، كما أشار هافلولك أليس، إن كافة النساء المبتكرات في قصص ساشر- مازوش تقريباً قد صممن بناء على هذين "النموذجين العاطفيين" المفضلين لديه ومعهن السياط والأحذية الثقيلة والفرو. وكما تبين كان هذا منطبقاً على حياته الشخصية.
وحين بلغ ساشر مازوش سن النضج صار مثقفاً بارزاً وتخرج من جامعة غراز وعمره تسعة عشر عاماً بشهادة دكتوراه في القانون. كان مولعاً بالمسرح [مثل دو ساد] ولكنه، على خلاف الماركيز لم يكن فاسقاً جنسياً. كان لطيفاً بالطبع محدثاً بارعاً ودوداً محباً لكلّ من قابله. قبل أن يتخرج من الجامعة كان قد بدأ يكتب ويقيم صلته بمسارح الهواة. وكما هو متوقع وقع من بعيد في حب ممثلة تشيكية اسمها كولا، كان متخصصة في أداء أدوار النساء المتسلطات. وكان يصفهن بأنهن «سلطانات وقيصرات... متلفعات بالفرو العظيم الموشى بالذهب».
ولخص كولا بأنها امرأة تستطيع أن تحوّل كل من يحبها إلى عبد مذعن، إلا أنها تستطيع أيضاً أن تقتل كل من تكرهه. وأكثر من ذلك كان يشبهها بسميراميس الأسطورية الملكة الأشورية التي كانت، كما جاء في التراث، أول من قامت بخصي عشاقها المنبوذين.
لقد كان مولعاً بصورة هذه المرأة المتسلطة الارستقراطية الملفعة بالفرو حاملة السوط حتى أنه كان يرسم صور نساء من هذا النوع على أوراقه الشخصية. وكانت أول قصة حب حدثت له عندما كان في الخامسة والعشرين من عمره. كان اسم المرأة انافون كوتوفيتز وكانت تصغره بعشر سنوات ومتزوجة زواجاً غير سعيد من طبيب ذي سمعة سيئة. كان لقاؤهما الأول في حفلة انجذبت فيها أنّا بسرعة إلى الارستقراطي الشاب الساحر الذي كان قد بدأ يشتهر ككاتب. ركزت اهتمامها عليه مصممة على أن تتقبله كما يستحق. وحين اكتشفت شذوذه الجنسي استثمرت المسألة وسرعان ما اكتشف زوجها أنه مخدوع فصمم على أن يحول القرنين المركبين له مؤخراً إلى قرنين ذهبيين من خلال الابتزاز. إلا أنه لم يحسب حساب أمر واحد.
قد يكون ساشر- مازوش راغباً في تقبل التحقير والمهانة والألم من أية امرأة إلا أنه لم يكن يخاف أي رجل [لقد نال وسام الشجاعة في حرب الستة أسابيع عام 1866]. وسرعان ما تحدى الدكتور كوتوفيتز ودعاه إلى المبارزة. ولكن الطبيب، كغيره من المبتزين، كان جباناً فخضع متقبلاً الإهانة فوراً. وهذا ما سوى الأمور وصارت أنّا العشيقة الدائمة لـ ليوبولد. كانت تعرف كيف تتقن الجلد إلاّ أنها كانت مبذرة جداً. كما أنها كانت أبعد ما تكون عن مجاراة ساشر مازوش في ذكائه. وبدأ يملها ولاحظ بمكر طبيعتها الشهوانية العميقة وتوقها الدائم لكافة الشؤون الجنسية في الحياة فبدا يخادعها ويدفعها إلى خيانته. وكان طعم مصيدته رجلاً يدعي أنه كونت روسي. وسار كل شيء كما خطط له باستثناء أمر واحد. تبين أن "الكونت" نصاب روسي، والأسوأ من ذلك أنه نقل لـ أنّا مرض السفلس. واستغل ليوبولد اتصالاته السياسية فاستطاع تهجير الكونت المزيف، ونقل أنّا إلى المستشفى. ولحسن الحظ استطاع أن ينجو من العدوى وأن يتخلص من عشيقته بضربة واحدة.
خلال ذلك كانت شهرته كروائي قد بدأت بالانتشار في أوروبا كلها. هلل له النقاد واعتبروه أفضل ناثر واعد مؤثر في النثر الألماني منذ غوته. وعلى الرغم من أن كتاباته لم تكن تحتوي على وحشية دو ساد إلا أنها كانت موشاة بقصص مذهلة تشتمل على التعذيب والقسوة في موضوع واحد -الأنثى المتسلطة- وكانت معظم القصص تعتمد على تقاليد السلاف الغريبة التي كان مفتوناً بحكاياتها الشعبية. هناك الكثير من المعالجة للجماعات العرقية والدينية المتعددة التي تعيش في موطنه غاليسيا. ويحكى في إحدى القصص عن مذهب غريب اسمه "آخذو الأرواح" يقترف معتنقوه جرائم طقوسية من أجل- إنقاذ أرواح، ضحاياهم، تأتي البطلة، وهى امرأة من الطائفة جميلة وغامضة إلى جماعة وتغري شاباً بالذهاب إلى منطقة نائية من البلاد. وهناك يمسك به أبناء طائفتها ويسجنونه ويعذبونه حتى يموت موتاً بطيئاً مصحوباً بمواعظ وأناشيد تثير القشعريرة كانت تُؤَدى من أجل خلاصه.
وعندما كان ليوبولد يعمل محرراً في مجلة أدبية وقع في هوى بارونة اسمها فون ريزنشتاين، وكما كان يحدث مع ساشر مازوش دائماً حدث الانجذاب من تحليقات الخيال الناجمة عن بعض القرائن. كانت البارونة كاتبة تنشر باسم مستعار لرجل. وقد اتصلت بالروائي بادئ الأمر بأمل أن يساعدها على نشر بعض قصصها. وجعلته النبرة العامة في رسائلها يعتقد أنها من النوع الذي يفضله من النساء: ارستقراطية ذكية ومن النوع المتسلط. ولم يعد يستطيع انتظار الالتقاء بها. وبدا أنها هي الأخرى تواقة لمواجهة شخصية معه. ولكن، كما تبين فيما بعد، لأسباب مختلفة تماماً. ولخيبة ليوبولد الكبيرة تبين له أن البارونة سحاقية اقترحت عليه أن ينطلقا معاً لاصطياد النساء. وفقد الرغبة والاهتمام فوراً.
والمرأة الثانية التي استولت على قلب ساشر مازوش امرأة مغامرة. اسمها فاني بستوربوغد ولوف. وكانت ملائمة لكل تطلعاته باستثناء ما يتعلق بالدماء الارستقراطية. لكن هذا لم يكن ذا أهمية بالغة لأنها كانت بارعة في لعب هذا الدور لإرضائه. وقبل أن تتحول إلى عشيقة دائمة له كان لا بد من وضع مجموعة من القواعد المقبولة من الطرفين والموافقة عليها في عقد شكلي غريب. مبدئياً وافق ساشر مازوش على أن يصبح لـ فاني «عبداً وأن ينصاع خلال ستة أشهر ودون أي تحفظ لكل رغباتها وأوامرها» وسمح له بست ساعات يومياً من أجل العمل. ووافقت فاني على أن لا تلمس رسائله الشخصية وما يتعلق بأعماله الأدبية. إلاّ أنه كان لها الحق في «معاقبة عبدها» بأية طريقة تراها ملائمة. ووعدت بأن تلبس الفرو قدر الإمكان وخاصة حين تكون في حالة «مزاج شرس». وكدلالة أخرى على التحقير كان عليها أن لا تناديه باسه الحقيقي بل باسم "غريغور" وكان هذا هو الاسم الشائع للخدم في تلك الأيام. وكان هناك حيز في الاتفاقية يضمن الطبيعة الخاصة لعلاقتهما الشاذة. لم يكن من المسموح لـ فاني على الإطلاق أن تفعل ما يجعل عشيقها يبدو أمام الناس جباناً أو مجرماً. فخارج حياته الجنسية لم يكن يتساهل مع أتفه الأمور.
واستمرت العلاقة قائمة طوال فترة الاتفاق - ستة أشهر. وخلال ذلك سافرا كثيراً إلى الخارج وخاصة إلى ايطاليا. وطالما أنهما على سفر كان ساشر مازوش يلبس كتابع ويحمل حقائب سيدته ويركب القطار في الدرجة الثالثة. وبما أن جزءً من حاجته للتعذيب كان ذهنياً إضافة إلى التعذيب والتحقير الجسديين، فقد كان يسعى إلى الأوضاع التي يمكن لعشيقته فيها أن تخونه مع آخرين. وكان لحادث من هذا النوع في ايطاليا دلائل جدية ومضحكة معاً. ناور حتى التقى بـ فاني بين نراعي ممثل ايطالي أناني أنيق ذي موهبة محدودة من الدرجة الثانية. ودب الرعب في قلب الخائن المسكين حين «ضبط متلبساً» ولكنه وقع في بلبلة كاملة حين تلقى بدلاً من الموت، قبلة على يده وشكراً جزيلاً.
في هذه الرحلة كانت أشهر رواية لـ ساشر مازوش هي "فينوس في بلتس" أو "فينوس بالفرو" وكانت البطلة، واندافون دوناييف، نموذجاً لمثله الأعلى الأنثوي. ولذلك من السهل أن نتصور نشوته حين تلقى رسالة من معجبة موقعة باسم واندا تدعي صاحبتها فيها أنها المرأة التي يحلم بها وقد تجسدت ألآن حية. وحصلت مراسلات حارة إلى أن تبين أن المسالة كلها مزاح غليظ تقوم به أم أحد أصدقائه. وسرعان ما استبدلت واندا كاتبة الرسائل بـ واندا ثانية. كانت إحدى صديقات المرسلة الأولى. ودخلت في علاقة جادة مع الكاتب الشهير. وكان اسمها الحقيقي اورورا روملين. ولفترة طويلة من الزمن قامت بمكيدة طويلة الأمد كانت خلالها تقابل عاشقها مقابلات سريعة وسرية ومكتومة -فقد أصرت على أن تلبس قناعاً. وهذا بحد ذاته أثار ساشر مازوش الذي أحبها بجنون وصار يلاحقها بحماس لا حدود له.
ومن الواضح أنها كانت تبادله الحب بإخلاص على الرغم من غرائبه الجنسية، التي كانت تعرفها معرفة تامة. ففي عام 1872 كتب لها في إحدى رسائله ما يلي:
«ليست لدي الرغبة في أن يسيء معاملتي من يحبني كثيراً، بل أن يفعل ذلك من يحبني حباً قليلاً. وإنني أرى الغيرة مؤلمة جداً إلاّ أنني أحس بالنشوة حين تستطيع امرأة إثارة غيرتي وحين تخدعني وتسيء معاملتي. أن أحب امرأة يعني أن أخافها. معظم النساء يفضلن الرجال الذين يتفوقون عليهن. أما أنا فأرغب في المرأة المتفوقة علي... المرأة الشرسة التي هي فكرتي عن المرأة، هي الأداة التي أخيف نفسي بها».
وفي النهاية كشفت "واندا" عن وجهها. كانت في أواخر العشرينات من عمرها، ومن حيث المظهر كانت فوق الوسط. وأخيراً تزوجا دون مرافقة عائلة ساشر مازوش. كانت واندا - اورورا من أصل سويسري ولا تمت بصلة إلى الارستقراطية. إلاّ أنها كانت ذكية وقابلة للتكيف. وعلى الرغم من أنها لم تكن أنثى متسلطة فعلاً إلا أنها مثلت دورها بأقصى ما تستطيع من جهد ومارست الضرب والإذلال المطلوبين.
وخلال الفترات المختلفة من الأزمات المادية كانت مجبرة على إظهار صفات تسلطية حقيقية وكانت كثيراً ما تندفع إلى ممارسة الضرب بغضب فعلي. وبالتدرج بدأت تيأس من محاولتها الدائمة لتحسين علاقتها وكثيراً ما كانت تصدم من أعماقها حين يصف لها زوجها بالتفصيل أساليب التعذيب الرهيبة في القرون الوسطى ويطلب إليها أن تجربها فيه. وذات مرة قال لها ممازحاً إنه يأسف لاستحالة أن تقوم بقطع رأسه.
وبدأت نوعية كتابات ساشر مازوش تسوء، على الرغم من أنها لم تتأثر كماً، لأنه بدا ينتج بكثرة للتكسب. ظل نتاجه يلاقي شعبية واسعة لدى الطبقات الدنيا ولكن دون قيمة أدبية. وكان التعذيب والرعب والنساء المتسلطات هي الملامح الأساسية في تلك الروايات التي كانت تحمل أسماء مثل [قابض الأرواح] و[العرس الدموي في كييف].
وأخيراً بدأ الزواج بالانهيار عندما بدأ الفارس [شيفاييه] -وهو اللقب الذي ورثه بعد موت أبيه يصر على أن تمارس زوجة الزنا. ولم تكن من النوع التعددي بطبيعتها لذلك فان الفكرة ذاتها قد فجرتها. وفى النهاية استسلمت بعد عدة محاولات غير موفقة. وكان "المغوي" طالب حقوق يهودياً مَجَرِيّاً انجرَّ إلى الورطة العائلية كما تنجرّ ضحية العنكبوت. رتبت حفلة عشاء شكلية صغيرة هادئة للثلاثة. وقدم المضيف الطعام بنفسه. وبعدها غادر الغرفة ووقف يتلصص من ثقب المفتاح. وبانزعاج كبير مارست السيدة ساشر مازوش خيانتها على كرسي في حجرة الجلوس فيما كان زوجها يرقب مبتهجاً من باب المطبخ.
وأخيراً انهار الزواج انهياراً كاملاً. فبعد إجبار زوجته على أن تصبح عشيقة صحفي اسمه روزنتال أغرم ساشر مازوش بسكرتيرة ألمانية عانس اسمها هلدا ميستر. وعلى الرغم من أنها توظفت في البداية كمترجمة إلا أنه صار واضحاً أن هناك واجبات أخرى تنتظر منها. وأخيراً بدأت تمارس الجنس معه بعد أن أكد لها أن زوجته موافقة تماماً. ولم يتوقع أي منهما رد الفعل العنيف الذي حدث عندما اكتشفت اورورا ما يجري من وراء ظهرها. أمسكت بسوطها. وبدلاً أن تنهال على زوجها أغارت به على هلدا المذهولة. وكاد الأمر أن ينتهي إلى قسم البوليس. ولكن حين وعد ساشر مازوش السكرتيرة المتضررة بالزواج وافقت على إبقاء الموضوع سرياً.
والتزم بكلامه. فبعد الانفصال رسمياً عن زوجته باشر الرعاية المنزلية مع هلدا. وفي عام 1883 استقرا في قرية ألمانية صغيرة [لندها يم] حيث، بعد عدد من العقبات القانونية، تزوجا رسمياً. وعاشا في حالة متواضعة قرب برج متهدم غريب الشكل اشتهر بأنه مسكون بأرواح الساحرات المعذبة التي عذبت في القرون الوسطى حتى الموت. ووافق هذا ساشر مازوش. ملأ المنزل برسوم الأمازونيات الملفعات بالفرو والحاملات السياط، اللواتي ابتكرهن خياله، وزين غرفة الطعام بالسلاسل والقيود والسياط المزودة بالمسامير وأدوات التعذيب القديمة. وعلى الرغم من جو الشك الذي أحاطه به القرويون فإنه اصبح أخيراً، كما قال هافلوك أليس، «شيئاً كـ تولستوي» بالنسبة إليهم. جذب إليه بعض الخيوط السياسية وعمل للحصول على شبكة مياه جديدة. شجع التعليم والعروض المسرحية والحياة الثقافية بشكل عام. وأكثر من ذلك استطاع منع العداء القائم بين اليهود والمسيحيين من أن يتفجر في حوادث عنف -ومع الزمن أنجبت له هلدا ولدين [كان قد رزق بثلاثة من اورورا وبرابع من عشيقة سابقة] وعاش بشكل عام حياة هادئة منتجة.
وللأسف بدأت صحته تتدهور عام 1884. وفي عام 1885 خنق بوحشية احدى قططه المدللة وحتى ذلك الحين لم يكن قد أظهر بادرة من بوادر السادية. ولكنه بغتة اكتشف متعة ميتافيزيقية غريبة في سفك دم مخلوق يحبه. وبدأت هلدا تخاف على نفسها وعلى أولادها. وفحصه طبيب نفساني أكد مخاوف هلدا. الرجل الذي كان ذات يوم «ودوداً بسيطاً وعطوفاً» أصبح الآن مهووساً خطراً. وفي أية لحظة قد تتملكه نوبة النزوع إلى القتل. وجاء هذا الرأي صدمة عميقة للمرأة الصبور التي تزوجته في سنوات انحداره .
أن مأساة ليوبولد فون ساشر مازوش واضحة ولكن المفارقة أكبر بكثير. إن كل كاتب يأمل في أن يتم تذكره بعد رحيله. ولولا ذلك لما كتب. وكذلك فإن كل كاتب يأمل أن يأمل أن يذكر بأجمل إنجازاته. وإن المرء ليتساءل ما الذي كان ساشر مازوش ذاته أن يقوله حول المصير النهائي لاسمه الذي قرره قبل الأوان الدكتور ريتشارد فون كرافت ايبنغ؟ فحين كان ساشر مازوش مازال حيا قرأ كرافت ايبنغ كتاب "فينوس في بتلس". وإضافة إلى ذلك فإن المعرفة المتبادلة جعلت كاتب «الاضطرابات العقبة والجنسية» يعرف تفاصل دقيقة عن نزعات [الفارس] الجنسية. وكانت النتيجة أن صاغ الدكتور اصطلاح "المازوشية" كنقيض للسادية.
واستطاع الانهيار المؤسف والاحتجاز الكامل لـ ساشر مازوش أن يكمل الحلقة المفرغة وأن يبت الرابطة التي لا تنفصم في القيد الذي يربط أدب المتعة بالألم.            

المصدر: أصول التعذيب في الأدب، برناردت ج. هروود، ترجمة ممدوح عدوان، ضمن مجلة الكرمل عدد 09، سنة 1982، صص 62-80

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق